الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقال شيخ الإسلام ـ رَحِمَهُ اللَّه: لما بعث اللّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بكتابه الذي هو الهدى والشفاء والنور، وجعله أحسن الحديث، وأحسن القصص، وجعله الصراط المستقيم لأهل العقل والتدبر، ولأهل التلاوة والذكر، ولأهل الاستماع والحال؛ فالمعتصمون به علمًا وحالا وتلاوة وسمعًا باطنًا وظاهرًا هم المسلمون حقًا، خاصة أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم لما انحرف من انحرف من أهل الكلام والحروف إلى كلام غيره، ومن أهل السماع والصوت إلى سماع غيره. كان الانحراف في أربع طوائف متجانسة: قوم تركوا التعلم منه والنظر فيه والتدبر له إلى كلام غيره، من كلام الصابئة أو اليهود، أو ما هو مُوَلَّد من ذلك أو مجانس له أو نحو ذلك، وهم منحرفة المتكلمة. وبإزائهم [في المطبوعة: بآرائهم ـ والصواب ما أثبتناه] قوم أقاموا حروفه وحفظوه وتلوه من غير فقه فيه، ولا فهم لمعانيه، ولا معرفة للمقالات التي توافقه أو تخالفه، ووجه بيانه لمسائلها ودلائلها، وهم ظاهرية القراء والمحدثين ونحوهم. وهذان الصنفان نظير متفقه لا يعرف الحديث، أو صاحب حديث لا يتفقه فيه. وكذلك متكلم لا يتدبر القرآن أو قارئ لا يعرف من القرآن أنواع الكلام الحق والباطل، فهاتان فرقتان علميتان. والثالثة: قوم تركوا استماع القلوب له والتنعم به، وتحرك القلب عن محركاته وذوق حلاوته، ووجود طعمه إلى سماع أصوات تغيره من شعر أو ملاهٍ، من أصوات الصابئة أو النصارى، أو ما هو مولد عن ذلك ومجانس له، أو نحو ذلك، وهم منحرفة المتصوفة والمتفقرة. وبإزائهم قوم يصوتون به، ويسمعون قراءته من غير تحرك عنه، ولا وجْد فيه، ولا ذوق لحقائقه ومعانيه، وهم ظاهرية العباد والمتطوعة والمتقرئة، فهذان الصنفان صاحب حال تحرك الأصوات حاله،وليست تلك الحركة والحال عن الصوت بالقرآن،وصاحب مقال يميز بين الأقوال وينظر فيها وليس ذلك النظر والمقال عن القرآن، وبإزائهما صاحب عبادة ظاهرة معه استماع ظاهر القرآن وتلاوته، وصاحب علم ظاهر معه حفظ حروف القرآن أو تفسير حروفه من غريبه وإعرابه، وأسباب نزوله ونحو ذلك. فهذه الأقسام الأربعة الذين وقفوا مع ظاهر العلم والعمل المشروعين، والذين خاضوا في باطن العلم والعمل، لكن غير المشروعين جاء التفريط والاعتداء منهم. ولهذا وقع بينهم التعادي؛ فالأولون يرمون الآخرين بالبدعة والضلالة، وقد صدقوا. والآخرون ينسبون الأولين إلى الجهالة والعجز، وقد صدقوا. ثم قد يكون مع بعض الأولين كثير من العلم والعمل المشروع، كما قد يكون مع بعض الآخرين كثير من العلم الباطن والحال الكامن، كما قد روى الحسن البصري ـ في مراسيله ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العلم علمان: علم في القلب، وعلم في اللسان. فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة اللّه على عباده). وقال يحيى بن سعيد التيمي أبو حيان ـ فيما رواه الخلال في جامعه عن الثوري: العلماء ثلاثة: فعالم باللّه ليس عالمًا بأمر اللّه، وعالم بأمر الله ليس عالمًا باللّه، وعالم باللّه وبأمر الله.
وَقَالَ شَيخ الإسلام ـ قدسَ اللّهُ رُوحه : وأما سؤاله عن: [إجراء القرآن على ظاهره] فإنه إذا آمن بما وصف اللّه به نفسه، ووصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تكييف فقد اتبع سبيل المؤمنين. ولفظ [الظاهر] في عرف المتأخرين قد صار فيه اشتراك، فإن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو من خصائص المخلوقين حتى يُشَبّّه اللّه بخلقه فهذا ضال، بل يجب القطع بأن اللّه ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. فقد قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، يعني: أن موعود اللّه في الجنة من الذهب، والحرير، والخمر، واللبن، تخالف حقائقه حقائق هذه الأمور الموجودة في الدنيا؛ فاللّه تعالى أبعد عن مشابهة مخلوقاته بما لا يدركه العباد، ليست حقيقته كحقيقة شيء منها. وأما إن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو الظاهر في عرف سلف الأمة، لا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يُلْحِد في أسماء اللّه تعالى، ولا يقرأ القرآن والحديث بما يخالف تفسير سلف الأمة وأهل السنة، بل يجرى ذلك على ما اقتضته النصوص، وتطابق عليه دلائل الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة ـ فهذا مصيب في ذلك وهو الحق. وهذه جملة لا يسع هذا الموضع تفصيلها، والله أعلم.
فأجاب ـ رحمه اللّه تعالى: ينبغي أن يعلم أن الاختلاف الواقع من المفسرين وغيرهم على وجهين: أحدهما: ليس فيه تضاد وتناقض، بل يمكن أن يكون كل منهما حقًا، وإنما هو اختلاف تنوع أو اختلاف في الصفات أو العبارات، وعامة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب؛ فإن اللّه ـ سبحانه ـ إذا ذكر في القرآن اسمًا مثل قوله: ومعلوم أن المسمى هو واحد وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه وعباراته، كما إذا قيل:محمد هو أحمد، وهو الحاشر، وهو الماحي، وهو العاقب، و هو خاتم المرسلين، وهو نبي الرحمة، وهو نبي الملحمة. وكذلك إذا قيل:القرآن هو الفرقان، والنور، والشفاء، والذكر الحكيم، والكتاب الذي أحكمت آياته ثم فُصِّلَت. وكذلك أسماء اللّه الحسنى فهوـ سبحانه ـ واحد صَمَد، وأسماؤه الحسنى تدل كلها على ذاته ويدل هذا من صفاته على ما لا يدل عليه الآخر، فهي متفقة في الدلالة على الذات متنوعة في الدلالة على الصفات؛ فالاسم يدل على الذات والصفة المعينة بالمطابقة، ويدل على أحدهما بطريق التضَمُّن، وكل اسم يدل على الصفة التي دل عليها بالالتزام؛ لأنه يدل على الذات المتكنى به جميع الصفات، فكثير من التفسير والترجمة تكون من هذا الوجه. ومنه قسم آخر، وهو أن يذكر المفسر والمترجم معنى اللفظ على سبيل التعيين والتمثيل، لا على سبيل الحد والحصر؛ مثل أن يقول قائل من العَجَم: ما معنى الخبز؟ فيشار له إلى رغيف، وليس المقصود مجرد عينه وإنما الإشارة إلى تعيين هذا الشخص. وهذا كما إذا سئلوا عن قوله: فإن الظالم لنفسه: هو تارك المأمور فاعل المحظور. والمقتصد:هو فاعل الواجب وتارك المحرم. والسابق: هو فاعل الواجب والمستحب، وتارك المحرم والمكروه. فيقول المجيب بحسب حاجة السائل: الظالم: الذي يفوت الصلاة والذي لا يُسبِغُ الوضوء، أو الذي لا يتم الأركان ونحو ذلك. والمقتصد: الذي يصلي في الوقت كما أمر. والسابق بالخيرات: الذي يصلي الصلاة بواجباتها ومستحباتها، ويأتي بالنوافل المستحبة معها، وكذلك يقول مثل هذا في الزكاة، والصوم، والحج، وسائر الواجبات. وقد روى عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما ـ أنه قال: التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا اللّه، فمن ادَّعى علمه فهو كاذب. والصحابة أخذوا عن الرسول لفظ القرآن ومعناه، كما أخذوا عنه السُّنَّة، وإن كان من الناس مـن غيََّر السنة فمن الناس مـن غَيَّر بعض معاني القرآن؛ إذ لم يتمكن من تغيير لفظه. وأيضًا، فقد يخفى على بعض العلماء بعض معاني القرآن، كما خفى عليه بعض السنة؛ فيقع خطأ المجتهدين من هذا الباب، واللّه أعلم.
فأجاب: الحمد للّه، ليس عليه إثم فيما ينويه ويفعله من كتابة العلوم الشرعية. فإن كتابة القرآن والأحاديث الصحيحة والتفاسير الموجودة الثابتة من أعظم القربات والطاعات. وأما التفاسير التي في أيدي الناس، فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري؛ فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير والكلبي، والتفاسير غير المأثورة بالأسانيد كثيرة، كتفسير عبد الرزاق، وعبد بن حميد، ووكيع وابن أبي شيبة [فى المطبوعة: قتيبة]، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه. وأما التفاسير الثلاثة المسؤول عنها، فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة [البغوي] لكنه مختصر من [تفسير الثعلبي] وحذف منه الأحاديث الموضوعة والبدع التي فيه، وحذف أشياء غير ذلك. وأما الواحدي، فإنه تلميذ الثعلبي، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع، وإن ذكرها تقليدًا لغيره، وتفسيره وتفسير الواحدي [البسيط والوسيط والوجيز] فيها فوائد جليلة وفيها غَثٌّ كثير من المنقولات الباطلة وغيرها. وأما الزمخشري، فتفسيره مَحْشُوّ بالبدعة، وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات والرؤية والقول بِخلْق القرآن، وأنكر أن الله مريد للكائنات وخالق لأفعال العباد، وغير ذلك من أصول المعتزلة. وأصولهم خمسة، يسمونها: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكن معنى التوحيد عندهم: يتضمن نفي الصفات؛ ولهذا سمي ابن التومرت [هو أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن تومرت، الفقيه الأصولي الزاهد، كان لهجا بعلم الكلام، وألف عقيدة لقبها بالمرشدة، وكان فيه تشيع، أخذ عن أبي حامد الغزالي] أصحابه الموحدين، وهذا إنما هو إلحاد في أسماء اللّه وآياته. ومعنى العدل عندهم: يتضمن التكذيب بالقَدَر، وهو خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات والقدرة على شىء. ومنهم من ينكر تقدم العلم والكتاب، لكن هذا قول أئمتهم، وهؤلاء منصب الزمخشري، فإن مذهبه مذهب المغيرة بن علي وأبي هاشم وأتباعهم. ومذهب أبي الحسين والمعتزلة الذين على طريقته نوعان: مسايخية وخشبية. وأما المنزلة بين المنزلتين فهي عندهم: أن الفاسق لا يسمى مؤمنًا بوجه من الوجوه، كما لا يسمى كافرًا، فنزلوه بين منزلتين. وإنفاذ الوعيد عندهم معناه: أن فُسَّاقَ الملة مخلدون في النار، لا يخرجون منها بشفاعة ولا غير ذلك، كما تقوله الخوارج. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتضمن عندهم: جواز الخروج على الأئمة، وقتالهم بالسيف. وهذه الأصول حشا بها كتابه بعبارة لا يهتدى أكثر الناس إليها، ولا لمقاصده فيها، مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة، ومن قلة النقل عن الصحابة والتابعين. و[تفسير القرطبي] خير منه بكثير، وأقرب إلى طريقة أهل الكتاب والسنة، وأبعد عن البدع، وإن كان كل من هذه الكتب لابد أن يشتمل على ما ينقد، لكن يجب العدل بينها، وإعطاء كل ذي حق حقه. و[تفسير ابن عطية] خير من تفسير الزمخشري، وأصح نقلا وبحثًا، وأبعد عن البدع، وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها. وثمَّ تفاسير أخر كثيرة جدًا، كتفسير ابن الجوزي والماوردي.
فأجاب: الحمد للّه رب العالمين. هذه مسألة كبيرة، قد تكلم فيها أصناف العلماء من الفقهاء والقراء وأهل الحديث والتفسير والكلام وشرح الغريب وغيرهم، حتى صنف فيها التصنيف المفرد، ومن آخر ما أفرد في ذلك ما صنفه الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي، المعروف بابن أبي شامة، صاحب [شرح الشاطبية]. فأما ذكر أقاويل الناس وأدلتهم وتقرير الحق فيها مبسوطًا، فيحتاج من ذكر الأحاديث الواردة في ذلك، وذكر ألفاظها، وسائر الأدلة، إلى ما لا يتسع له هذا المكان، ولا يليق بمثل هذا الجواب، ولكن نذكر النكت الجامعة، التي تنبه على المقصود بالجواب. فنقول: لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن [الأحرف السبعة] التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أُنزل عليها ليست هي قراءات القراء السبعة المشهورة، بل أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد، وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد، فإنه أحب أن يجمع المشهور من قراءات الحرمين والعراقين والشام؛ إذ هذه الأمصار الخمسة هي التي خرج منها عِلْم النبوة من القرآن وتفسيره، والحديث والفقه من الأعمال الباطنة والظاهرة، وسائر العلوم الدينية، فلما أراد ذلك جمع قراءات سبعة مشاهير من أئمة قراء هذه الأمصار؛ ليكون ذلك موافقًا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن، لا لاعتقاده أو اعتقاد غيره من العلماء أن القراءات السبعة هي الحروف السبعة، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم. ولهذا قال من قال من أئمة القراء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة وإمام قراء البصرة في زمانه في رأس المائتين. ولا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده، بل قد يكون معناها متفقًا أو متقاربًا، كما قال عبد اللّه بن مسعود: إنما هو كقول أحدكم: أقبِل، وَهَلُمَّ، وَتَعَال. وقد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر، لكن كلا المعنيين حق، وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض، وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا حديث: (أنزل القرآن على سبعة أحرف، إن قلت: غفورًا رحيمًا، أو قلت: عزيزًا حكيمًا فاللّه كذلك، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة). وهذا كما في القراءات المشهورة ومـن الـقراءات مـا يكون المعنـى فيهـا متفقًا مـن وجـه متباينا مـن وجه، كقـولـه: {يخدعون} و{يُخَادِعُونَ} [البقرة:9] و(يكذبون) و{يكذبون} [المطففين:11] و(لَمَسْتُم) و{لامستم} [النساء:43، المائدة:60] و وأما ما اتحد لفظه ومعناه وإنما يتنوع صفة النطق به كالهمزات، والمدات، والإمالات، ونقل الحركات، والإظهار، والإدغام، والاختلاس، وترقيق اللامات والراآت، أو تغليظها ونحو ذلك مما يسمى القراءات الأصول فهذا أظهر وأبين في أنه ليس فيه تناقض ولا تضاد مما تنوع فيه اللفظ أو المعنى؛ إذ هذه الصفات المتنوعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا، ولا يعد ذلك فيما اختلف لفظه واتحد معناه، أو اختلف معناه من المترادف ونحوه؛ ولهذا كان دخول هذا في حرف واحد من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها من أولى ما يتنوع فيه اللفظ أو المعنى، وإن وافق رسم المصحف وهو ما يختلف فيه النقط أو الشكل. ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبوعين من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين، بل من ثبت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة أو قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي ونحوهما، كما ثبت عنده قراءة حمزة والكسائي، فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف، بل أكثر العلماء الأئمة الذين أدركوا قراءة حمزة كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم، يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح المدنيين، وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق وغيرهم على قراء حمزة والكسائي. وللعلماء الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء؛ ولهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة، يجمعون ذلك في الكتب، ويقرؤونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم. وأما الذي ذكره القاضي عياض ومن نقل من كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة، وجرت له قصة مشهورة، فإنما كان ذلك في القراءات الشاذة الخارجة عن المصحف، كما سنبينه. ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة، ولكن من لم يكن عالما بها أو لم تثبت عنده، كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره، ولم يتصل به بعض هذه القراءات، فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه؛ فإنالقراءة - كما قال زيد بن ثابت- سنة يأخذها الآخر عن الأول، كما أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الاستفتاحات في الصلاة ومن أنواع صفة الأذان والإقامة وصفة صلاة الخوف وغير ذلك كله حسن يشرع العمل به لمن علمه، وأما من علم نوعًا ولم يعلم غيره فليس له أن يعدل عما علمه إلى ما لم يعلمه، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك، ولا أن يخالفه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا). وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني مثل قراءة ابن مسعود، وأبي الدرداء ـ رضي اللّه عنهما ـ: (والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى. والذكر والأنثى) كما قد ثبت ذلك في الصحيحين، ومثل قراءة عبد اللّه:(فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وكقراءته:(إن كانت إلاَّ زَقْيَة [أي: صيحة. انظر: القاموس، مادة: زقا] واحدة) ونحو ذلك - فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة ؟ على قولين للعلماء، هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد، وروايتان عن مالك. إحداهما: يجوز ذلك؛لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرؤون بهذه الحروف في الصلاة. والثانية: لا يجوز ذلك، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس ـ رضي اللّه عنهم ـ أن جبريل ـ عليه السلام ـ كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين. والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف، أمر زيد بن ثابت بكتابتها، ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة على وغيره. وهذا النزاع لابد أن يبني على الأصل الذي سأل عنه السائل، وهو أن القراءات السبعة هل هي حرف من الحروف السبعة أم لا؟ فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة، بل يقولون: إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة، وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل، والأحاديث والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول. وذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة، وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام،كالقاضي أبي بكر الباقلاني وغيره؛ بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شىء من الأحرف السبعة، وقد اتفقوا على نقل هذا المصحف الإمام العثماني وترك ما سواه، حيث أمر عثمان بنقل القرآن من الصحف التي كان أبو بكر وعمر كتبا القرآن فيها، ثم أرسل عثمان بمشاورة الصحابة إلى كل مصر من أمصار المسلمين بمصحف وأمر بترك ما سوى ذلك. قال هؤلاء: ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة، ومن نصر قول الأولين يجيب تارة ـ بما ذكر محمد بن جرير وغيره ـ من أن القراءة على الأحرف السبعة، لم يكن واجبًا على الأمة، وإنما كان جائزًا لهم مرخصًا لهم فيه، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه، كما أن ترتيب السور لم يكن واجبًا عليهم منصوصًا بل مفوضًا إلى اجتهادهم؛ ولهذا كان ترتيب مصحف عبد اللّه على غير ترتيب مصحف زيد وكذلك مصحف غيره. وأما ترتيب آيات السور فهو منزل منصوص عليه، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم، كما قدموا سورة على سورة؛ لأن ترتيب الآيات مأمور به نصًا، وأما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم. قالوا: فكذلك الأحرف السبعة، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد، اجتمعوا على ذلك اجتماعًا سائغًا، وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة، ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور. ومن هؤلاء من يقول بأن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام؛ لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرًا عليهم، وهو أرفق بهم، أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة، ويقولون: إنه نسخ ما سوي ذلك. وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول:إن حروف أبي بن كعب،وابن مسعود وغيرهما - مما يخالف رسم هذا المصحف - منسوخة. وأما من قال عن ابن مسعود: إنه كان يجوز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، وإنما قال: قد نظرت إلى القراء، فرأيت قراءتهم متقاربة، وإنما هو كقول أحدكم: أقْبِلْ، وهَلُم َّ، وتَعَالَ، فاقرؤوا كما علمتم، أو كما قال. ثم من جوز القراءة بما يخرج عن المصحف مما ثبت عن الصحابة قال: يجوز ذلك؛ لأنه من الحروف السبعة، التي أنزل القرآن عليها، ومن لم يجوزه فله ثلاثة مآخذ: تارة يقول: ليس هو من الحروف السبعة، وتارة يقول: هو من الحروف المنسوخة، وتارة يقول: هو مما انعقد إجماع الصحابة على الإعراض عنه، وتارة يقول: لم ينقل إلينا نقلاً يثبت بمثله القرآن. وهذا هو الفرق بين المتقدمين والمتأخرين. ولهذا كان في المسألة قول ثالث، وهو اختيار جدي أبي البركات أنه إن قرأ بهذه القراءات في القراءة الواجبة ـ وهي الفاتحة عند القدرة عليها ـ لم تصح صلاته؛ لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة لعدم ثبوت القرآن بذلك، وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل صلاته؛ لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل لجواز أن يكون ذلك من الحروف السبعة التي أنزل عليها. وهذا القول ينبني على أصل، وهو أن ما لم يثبت كونه من الحروف السبعة، فهل يجب القطع بكونه ليس منها ؟ فالذي عليه جمهور العلماء أنه لا يجب القطع بذلك، إذ ليس ذلك مما أوجب علينا أن يكون العلم به في النفي والإثبات قطعيًا. وذهب فريق من أهل الكلام إلى وجوب القطع بنفيه، حتى قطع بعض هؤلاء ـ كالقاضي أبي بكر ـ بخطأ الشافعي وغيره ممن أثبت البسملة آية من القرآن في غير سورة النمل؛ لزعمهم أن ما كان من موارد الاجتهاد في القرآن فإنه يجب القطع بنفيه، والصواب القطع بخطأ هؤلاء، وأن البسملة آية من كتاب اللّه، حيث كتبها الصحابة في المصحف؛ إذ لم يكتبوا فيه إلا القرآن وجردوه عما ليس منه، كالتخميس والتعشير وأسماء السور، ولكن مع ذلك لا يقال: هي من السورة التي بعدها، كما أنها ليست من السورة التي قبلها، بل هي كما كتبت آية أنزلها اللّه في أول كل سورة، وإن لم تكن من السورة، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة. وسواء قيل بالقطع في النفي أو الإثبات، فذلك لا يمنع كونها من موارد الاجتهاد التي لا تكفير ولا تفسيق فيها للنافي ولا للمثبت، بل قد يقال ما قاله طائفة من العلماء: إن كل واحد من القولين حق، وأنها آية من القرآن في بعض القراءات، وهي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين، وليست آية في بعض القراءات، وهي قراءة الذين يصلون ولا يفصلون بها بين السورتين. وأما قول السائل: ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف ؟ فهذا مرجعه إلى النقل واللغة العربية، لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله، إذ ليس لأحد أن يقرأ قراءة بمجرد رأيه، بل القراءة سنة متبعة، وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمامي، وقد قرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء، لم يكن واحد منهما خارجا عن المصحف. ومما يوضح ذلك: أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء، ويتنوعون في بعض، كما اتفقوا في قوله تعالى: والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على المصاحف،كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن ربي قال لي أن قم في قريش فأنذرهم.فقلت: أي رب، إذًا يثلغوا رأسي ـ أي يشدخوا ـ فقال: إني مبتليك ومُبْتَلٍ بك، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظَانًا، فابعث جندًا أبعث مثليهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأَنْفِقْ أُنْفِقْ عليك) فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرؤه في كل حال، كما جاء في نعت أمته:(أناجيلهم في صدورهم) بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب، ولا يقرؤونه كله إلا نظرًا لا عن ظهر قلب. وقد ثبت في الصحيح أنه جمع القرآن كله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة، كالأربعة الذين من الأنصار، وكعبد اللّه بن عمرو، فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف. وكذلك ليست هذه القراءات السبعة هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها باتفاق العلماء المعتبرين، بل القراءات الثابتة عن أئمة القراء ـ كالأعمش ويعقوب، وخَلف، وأبي جعفر يزيد بن القعقاع، وشيبة بن نصاح ونحوهم ـ هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة عند من ثبت ذلك عنده، كما ثبت ذلك. وهذا أيضًا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء والقراء وغيرهم، وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام الذي أجمع عليه أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والتابعون لهم بإحسان، والأمة بعدهم، هل هو بما فيه من القراءات السبعة، وتمام العشرة، وغير ذلك؟ هل هو حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها؟ أو هو مجموع الأحرف السبعة؟ على قولين مشهورين. والأول قول أئمة السلف والعلماء، والثاني قول طوائف من أهل الكلام والقراء وغيرهم، وهم متفقون على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضًا خلافًا يتضاد فيه المعنى ويتناقض، بل يصدق بعضها بعضًا، كما تصدق الآيات بعضها بعضًا. وسبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف هو تجويز الشارع وتسويغه ذلك لهم؛ إذ مرجع ذلك إلى السنة والاتباع، لا إلى الرأي والابتداع. أما إذا قيل: إن ذلك هي الأحرف السبعة فظاهر، وكذلك بطريق الأولى إذا قيل: إن ذلك حرف من الأحرف السبعة؛ فإنه إذا كان قد سوغ لهم أن يقرؤوه على سبعة أحرف كلها شاف كاف مع تنوع الأحرف في الرسم؛ فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك في الرسم وتنوعه في اللفظ أوْلَى وأحْرَى، وهذا من أسباب تركهم المصاحف أول ما كتبت غير مشكولة ولا منقوطة؛ لتكون صورة الرسم محتملة للأمرين، كالتاء والياء، والفتح والضم، وهم يضبطون باللفظ كلا الأمرين، ويكون دلالة الخط الواحد عل كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيها بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المنقولين المعقولين المفهومين؛ فإن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تلقـوا عنـه ما أمـره اللّه بتبليغـه إليهم من القرآن لفظه ومعناه جميعًا، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي ـ وهو الذي روى عن عثمان، رضي اللّه عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه) كما رواه البخاري في صحيحه، وكان يقرئ القرآن أربعين سنة ـ قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا عثمان بن عفان وعبد اللّه بن مسعود وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا. ولهذا دخل في معنى قوله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) تعليم حروفه ومعانيه جميعًا، بل تعلم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه، وذلك هو الذي يزيد الإيمان، كما قال جُنْدُب بن عبد اللّه وعبد الله بن عمر وغيرهما: تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا، وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان. وفي الصحيحين عن حذيفة قال: حدثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا: أن الأمانة نزلت في جَذْرِ قلوب الرجال، ونزل القرآن [وقوله: جَذْر ـ أي أصل]. وذكر الحديث بطوله، ولا تتسع هذه الورقة لذكر ذلك، وإنما المقصود التنبيه على أن ذلك كله مما بلغه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى الناس. وبلغنا أصحابه عنه الإيمان والقرآن، حروفه ومعانيه، وذلك مما أوحاه اللّه إليه، كما قال تعالى:
|